فصل: الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن الخلفاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الثالث في كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكفر للدعاية إلى الإسلام:

وهو على ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأول: أن يفتتح الكتاب بلفظ من محمدٍ رسول الله إلى فلان كما في الأسلوب الأول من كتبه إلى أهل الإسلام:
فمن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: وهو قيصر، وقيل نائبه بالشام.
وهو على ما ثبت في الصحيحين: من محمدٍ رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتبع الهدى.
أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويأهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.
وذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: أن كتابه صلى الله عليه وسلم، إلى هرقل كان فيه: من محمدٍ رسول الله إلى صاحب الروم، إني أدعوك إلى الإسلام: فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، وإن لم تدخل في الإسلام فأعط الجزية، فإن الله تعالى يقول: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} وإلا فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام أن يدخلوا فيه أو يعطوا الجزية.
قال أبو عبيد: وأراد بالفلاحين أهل مملكته، لأن العجم عند العرب كلهم فلاحون لأنهم أهل زرعٍ وحرثٍ.
وفي مسند البزار أنه صلى الله عليه وسلم كتب إليه: من محمدٍ رسول الله إلى قيصر صاحب الروم.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز، ملك الفرس فيما ذكره ابن الجوزي، وهو: من محمدٍ رسول الله إلى كسرى عظيم فارس.
سلامٌ على من اتبع الهدى وآمن بالله رسوله، وأدعوك بدعاية الله عز وجل فإني أنا رسول الله إلى الناس كافةً، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وأسلم تسلم فإن توليت فإن إثم المجوس عليك.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم، إلى المقوقس صاحب مصر. وهو فيما ذكره ابن عبد الحكم: «من محمدٍ رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلامٌ على من اتبع الهدى.
أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط. {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا تعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}»
وذكر الواقدي أن كتابه إليه كان بخط أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وأن فيه: من محمدٍ رسول الله إلى صاحب مصر.
أما بعد، فإن الله أرسلني رسولاً وأنزل علي قرآناً، وأمرني بالإعذار والإنذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا ويدخل الناس في ملتي، وقد دعوتك إلى الإقرار بوحدانيته، فإن فعلت سعدت، وإن أبيت شقيت، والسلام.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة. وهو فيما ذكره ابن إسحاق: من محمدٍ رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، إني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم البتول الطيبة الحصينة، حملته من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي. وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفرٌ من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي، صاحب اليمامة، وكان نصرانياً. وهو فيما ذكره السهيلي: من محمدٍ رسول الله إلى هوذة بن علي.
سلامٌ على من اتبع الهدى. واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران. وهو فيما ذكره صاحب الهدي المحمدي: بسم الله الرحمن الرحيم، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
أما بعد، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم، إلى جيفرٍ وعبدٍ ابني الجلندى ملكي عمان.
وهو: من محمدٍ رسول الله إلى جيفرٍ وعبد ابني الجلندي، سلامٌ على من اتبع الهدى.
أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافةً لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما وإن إبيتما أن يقرأ بالإسلام فإن ملككما زائلٌ عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي في ملككما. وكتب أبي بن كعب.
وفي رواية ذكرها أبو عبيد في كتاب الأموال أنه كتب إليهما: من محمدٍ رسول الله لعباد الله أسيد بن ملوك عمان، وأسيد عمان: من كان منهم بالبحرين، إنه إن أمنوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا حق النبي صلى الله عليه وسلم ونسكوا نسك المسلمين، فإنهم أمنون، وإن لهم ما أسلموا عليه، غير أن مال بيت النار ثنيا لله ورسوله، وإن عشور تمر صدقة، ونصف عشور الحب، وإن للمسلمين نصرهم ونصحهم، وإن لهم على المسلمين مثل ذلك، وإن لهم أرحاء يطحنون بها.
قال أبو عبيد: وبعضهم يرويه لعباد الله الأسبيين أسماً أعجمياً نسبهم إليه. قال: وإنما سموا بذلك لأنهم نسبوا إلى عبادة فرس، وهو بالفارسية أسب فنسبوا إليه، وهم قومٌ من الفرس وفي رواية من العرب.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى مسيملة الكذاب في جواب كتابه إليه صلى الله عليه وسلم، أنه جعل له الأمر بعده آمن به.
وهو: من محمدٍ رسول الله إلى مسيملة الكذاب: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح الكتاب بلفظ أما بعد:
وهو أقل وقوعاً مما قبله فمن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران ودينهم النصرانية.
وهو فيما ذكره ابن الجوزي: «بسم الله الرحمن الرحيم، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
أما بعد، فإن أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام»
.
الأسلوب الثالث: أن يفتتح الكتاب بلفظ هذا كتاب:
فمن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم، مع رفاعة بن زيد إلى قومه. وهو فيما ذكره ابن إسحاق: «هذا كتابٌ من محمدٍ رسول الله لرفاعة بن زيدٍ، إني بعثته إلى قومه عامةً ومن دخل فيهم، يدعوهم إلى الله ورسوله، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين».
قلت: وقد كتب صلى الله عليه وسلم، إلى جماعةٍ غير من تقدم، لم أقف على صورة ما كتب إليهم، كجبلة بن الأيهم الغساني، وذي الكلاع الحميري وغيرهم، وستأتي كتبه صلى الله عليه وسلم في معنى الولايات والإقطاعات والهدن والأمانات في مواضعها إن شاء الله تعالى.

.الفصل الثاني من الباب الثاني من المقالة الرابعة في الكتب الصادرة عن الخلفاء:

وهي على قسمين:

.القسم الأول: المكاتبات إلى أهل الإسلام:

وفيه عشرة أطراف:

.الطرف الأول في الكتب الصادرة عن الخلفاء من الصحابة رضي الله عنهم:

وفيه جملتان:

.الجملة الأولى في المكاتبات الصادرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

وكانت تتفتح بلفظ: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان وباقي الكتاب من نسبة كتب النبي صلى الله عليه وسلم من التصدير بالسلام والتحميد، والتخلص بأما بعد، والاختتام بالسلام وما يجري هذا المجرى، مع لزوم الخطاب بالكاف وتاء المخاطب للواحد، وبالتثنية للاثنين، والجمع الجماعة. وعنونتها من أبي بكرٍ خليفة رسول الله في الجانب الأيمن ثم إلى فلان الفلاني في الجانب الأيسر على ما يقتضيه الترتيب المتقدم.
وهذه نسخة كتابه رضي الله عنه إلى أهل الردة حين ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو على ما ذكره صاحب نهاية الأرب: من أبي بكرٍ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على الإسلام، أو رجع عنه، سلامٌ على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأقر بما جاء به وأكفر من أبى وأجاهده.
أما بعد، فإن الله أرسل محمداً بالحق من عنده إلى خلقه بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، يهدي الله للحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإذنه من أدبر عنه حتى صار إلى الإسلام طوعاً وكرهاً، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه، وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزله، فقال: {إنك ميتٌ وإنهم ميتون} وقال: {وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} وقال للمؤمنين: {وما محمدٍ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله بالمرصاد، حي قيوم لا يموت ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم، حافظٌ لأمره، منتقمٌ من عدوه بحزبه، وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله، وما جاء به نبيكم، وأن تهتدوا بهديه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن من لم يهد الله ضل، وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم ينصره مخذول. فمن هداه الله كان مهدياً، ومن أضله كان ضالاً: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} ولم يقبل منه في الدنيا عملٌ حتى يقر به، ولم يقبل له في الآخرة صرفٌ ولا عدل.
وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله وجهالةً بأمره، وإجابةً للشيطان، وقال الله جل ثناؤه: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا لا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس الظالمين بدلاً} وقال جل ذكره: {إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} وإني أنفذت إليكم فلاناً في جيشٍ من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسانٍ، وأمرته أن لا يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحاً، قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أمرته أن يقاتله على ذلك، ولا يبقى على أحدٍ منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران، ويقتلهم كل قتلة، ويسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحدٍ إلا الإسلام، فمن آمن فهو خيرٌ له، ومن تركه فلن يعجز الله. وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإن أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا سلوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قبل منهم وحملهم على ما ينبغي لهم.

.الجملة الثانية في المكاتبات الصادرة عن بقية الخلفاء من الصحابة رضوان الله عليهم:

وهي على أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن يفتتح الكتاب بلفظ من فلان إلى فلان:
يقال أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما صارت الخلافة إليه بعد أبي بكر، كان يكتب في كتبه: من عمر بن الخطاب خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان فلما تلقب بأمير المؤمنين على ما تقدم في المقالة الثالثة، أثبت هذا اللقب في كتبه، وزاد في ابتدائها لفظ عبد الله قبل اسمه، ليكون اسمه نعتاً له، فكان يكتب: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى فلان وباقي الكتاب على ما مر في كتب النبي صلى الله عليه وسلم، والصديق بعده في التصدير والتعبير عن نفسه بلفظ الإفراد، مثل أنا ولي وعلي، وعن المكتوب له بكاف الخطاب، مثل لك وعليك، وتاء المخاطب، مثل قلت وفعلت، وتبعه الخلفاء على ذلك. وعنونتها من عبد الله فلانٍ أمير المؤمنين في الجانب الأيمن، ثم إلى فلان الفلاني في الجانب الأيسر كما تقدم ترتيبه.
فمن ذلك ما كتب به أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، إلى عمرو بن العاص وهو يومئذ أمير مصر، وهو: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلامٌ عليك.
أما بعد، فقد بلغني أنه فشت لك فاشيةٌ من خيلٍ وإبلٍ وبقرٍ وعبيدٍ، وعهدي بك قبل ذلك ولا مال لك، فاكتب إلي من أين أصل هذا المال.
ومن ذلك ما كتب به معاوية بن أبي سفيان في خلافته إلى ابنه يزيد، وقد بلغه مقارفته اللذات، وانهماكه على الشهوات، وهو:
أما بعد، فقد أدت ألسنة التصريح إلى أذن العناية بك ما فجع الأمل فيك، وباعد الرجاء منك إذ ملأت العيون بهجةً، والقلوب هيبةً، وترامت إليك آمال الراغبين، وهمم المتنافسين، وسحت بك فتيان قريشٍ وكهول أهلك، فما يسوغ لهم ذكرك إلا على الجرة المهوعة، والكظ الجشء. اقتحمت البوائق، وانقدت للمعاير، واعتضتها من سمو الفضل، ورفيع القدر، فليتك يزيد إذ كنت لم تكن. سررت يافعاً ناشئاً، وأثكلت كهلاً ضالعاً، فواحزناه عليك يزيد! وياحر صدر المثكل بك! ما أشمت فتيان بني هاشم وأذل فتيان بني عبد شمس! عند تفاوض المفاخر ودراسة المناقب! فمن لصلاح ما أفسدت، ورتق ما فتقت! هيهات خمشت الدربة وجه التصبر بك، وأبت الجناية إلا تحدراً على الألسن، وحلاوةً على المناطق! ما أربح فائدةً نالوها، وفرصةً انتهزوها! انتبه يزيد للفظة، وشاور الفكرة، ولا تكن إلى سمعك أسرع من معناها إلى عقلك. واعلم أن الذي وطأك وسوسة الشيطان، وزخرفة السلطان، مما حسن عندك قبحه، واحلولى عندك مره، أمرٌ شركك فيه السواد ونافسكه الأعبد، لا لأثرة تدعيها أو حبتها لك الإمرة، وأضعت بها من قدرك، فأمكنت بها من نفسك، فكأنك شانيء نفسك، فمن لهذا كله؟ اعلم يا يزيد، أنك طريد الموت وأسير الحياة، بلغنى أنك اتخذت المصانع والمجالس للملاهي والمزأمير كما قال تعالى: {أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} وأجهرت الفاحشة حتى اتخذت سريرتها عندك جهراً.
اعلم يا يزيد، أن أول ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة، وآلائه المتواترة، وهي الجرحة العظمى، والفجعة الكبرى، ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثم استحسان العيوب، وركوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السر. فلا تأمن نفسك على سرك، ولا تعقد على فعلك. فما خير لذةٍ تعقب الندم، وتعفي الكرم؟ وقد توقف أمير المؤمنين بين شطرين من أمرك، لما يتوقعه من غلبة الآفة واستهلاك الشهوة. فكن الحاكم على نفسك، واجعل المحكوم عليه ذهنك ترشد إن شاء الله تعالى. وليبلغ أمير المؤمنين ما يرد شارداً من نومه، فقد أصبح نصب الاعتزال من كل مؤانس، ودرأة الألسن الشامتة، وفقك الله فأحسن.
الأسلوب الثاني: أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد:
وهو على ما تقدم خلا الابتداء والتصدير بالسلام والتحميد، ويكون الافتتاح فيه بالمقصد، كما كتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان إلى علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، حين خرج علي إلى الينبع واختلف الناس على عثمان.
أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين، وطمع في كل من كان يضعف عن الدفع عن نفسه، ولم يغلبك مثل مغلب، فأقبل إلي صديقاً كنت أو عدواً: [طويل]
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلٍ ** وإلا فأدركني ولما أمزق

.الطرف الثاني في الكتب الصادرة عن خلفاء بني أمية:

وهي على ما تقدم من الكتب عن الخلفاء من الصحابة في التصدير والتعبير، إلا أنه يعبر عن الخليفة بأمير المؤمنين، وربما عبر عنه بلفظ الإفراد، مثل: فعلت وأفعل وما أشبه ذلك أما الخطاب للمكتوب له، فبكاف الخطاب وتاء المخاطب مثل، إنك أنت قلت كذا، وفعلت كذا، وما أشبه ذلك. وعنوانها: من عبد الله فلانٍ أمير المؤمنين في الجانب الأيمن، ثم إلى فلانٍ الفلاني في الجانب الأيسر.
ثم هي على أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن يفتتح الكتاب بلفظ من عبد الله فلانٍ أمير المؤمنين إلى فلان:
كما كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف وقد بلغه تعرضه لأنس بن مالك رضي الله عنه من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف.
أما بعد، فإنك عبدٌ علت بك الأمور فطغيت، وعلوت فيها حتى جزت حد قدرك، وعدوت طورك. وايم الله لأغمزنكم كبعض غمزات الليوث الثعالب، ولأركضنك ركضةً تدخل منها في وجعاء أمك! أذكر مكاسب آبائك في الطائف، إذ كانوا ينقلون الحجارة على أعناقهم، ويحفرون الآبار والمناهر بأيديهم، قد نسيت ما كنت عليه أنت وآباؤك من الدناءة واللؤم والضراعة. وقد بلغ أمير المؤمنين استطالةٌ منك على أنس بن مالك جرأة منك على أمير المؤمنين، وغرةً بمعرفة غيره ونقماته وسطواته على من خالف سبيله، وعمد إلى غير محجته، ونزل عند سخطته، وأظنك أردت أن تروزه. بها فتعلم ما عنده من التغيير والتنكير فيها، فإن سوغتها مضيت قدماً، وإن غصصت بها وليت دبراً أيها العبد الأخفش العينين، الأصك الرجلين، الممسوح الجاعرتين، ولن يخفى عن أمير المؤمنين نبؤك، ولكل نبأ مستقرٌّ وسوف تعلمون.
الأسلوب الثاني: أن يفتتح الكتاب بلفظ أما بعد ويقع الشروع منه في المقصد:
كما يكتب يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، وقد بلغه خلافهم عليه.
أما بعد، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ. إني والله قد لبستكم فأخلقتكم! ورفعتكم على رأسي ثم على عيني، ثم على فمي، ثم على بطني، وايم الله لئن وضعتكم تحت قدمي لأطأنكم وطأة أقل بها عددكم، وأترككم بها أحاديث تنسخ منها أخباركم كأخبار عادٍ وثمود.
وكما يكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة، وهو عامله على بعض النواحي: أما بعد، فإذا أمكنتك القدرة على المخلوق، فاذكر قدرة الخالق عليك! واعلم أن مالك عند الله مثل ما للرعية عندك.
وكما يكتب يزيد بن الوليد المعروف بالناقص إلى مروان بن محمد وقد بلغه عنه تلكؤ في بيعته: أما بعد، فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي فاعتمد على أيهما شئت والسلام.
قلت: ولم يزل الأمر في المكاتبات في الدولة الأموية جارياً على سنن السلف، إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك، فجود القراطيس، وجلل الخطوط، وفخم المكاتبات، وتبعه من بعده من الخلفاء على ذلك، إلا عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن الوليد المقدم ذكره، فإنهما جريا في ذلك على طريقة السلف. ثم جرى الأمر بعدهما على ما سنه الوليد بن عبد الملك، إلى أن صار الأمر إلى مروان بن محمد آخر خلفائهم، وكتب له عبد الحميد بن يحيى وكان من اللسن والبلاغة على ما اشتهر ذكره فأطال الكتب وأطنب فيها، حيث اقتضى الحال تطويلها والإطناب فيها، حتى يقال: إنه كتب كتاباً عن الخليفة جاء وقر جملٍ، واستمر ذلك فيما بعده.